عالم ثلاجات الموتى مليئ بالغموض والأسرار، وحده الطب الشرعي يملك مفاتيح سرداب المرور إلى نوافذ الموت الواسعة. آن الأوان لنقترب و نرفع الغطاء كي نتحدث مع ظلال المشرحه، هيا نتقدم بجرأة نحوهم ونقترب من عالمهم البارد.
ليس دافع الفضول وحده هو الذي يسيطر على قلمي بل أردت إثبات أن الجاني مهما بلغت براعته وذكاؤه فإن يد العدالة مدفوعة بأنين وصرخات الضحايا لن تتوقف إلا بالقصاص.
قصة حديث في رواق المشرحة
كعادتي دوما أبدأ عملي بشرب فنجان القهوة، وأتابع أثناء ذلك بعض مواقع التواصل الإجتماعي، أهنئ صديق أو أقدم التعازي لآخر، تأقلمت بمرور الوقت على تواجدي وسط الجثث، أشعر دائما بترقب وفضول عندما أذكر مكان عملي، تقوم عيناي لا إراديا بالتقاط رد فعل الشخص الذي أحدثه، إذ تعلو قسمات وجهه تعبيرات مختلفة لكن أغلبها يكون ممزوجا بالمفاجأة والخوف والفضول.
غريب هو طبع الإنسان يهاب الموت مع أنه مصيره المحتوم، لا أخفيكم سرا لقد كنت ضمن تلك الزمرة التي ترتعد من مجرد ذكر الجثث، لكن ها أنذا تصالحت مع بوابة العالم الآخر التي أعمل بها حاليا وأشعر بالفخر كلما وقعت عيناي صباحا على تلك اليافطة الكبيرة التي تستقبلني كل صباح فور ركني لسيارتي" مشرحة المستشفى العام".
التعريف ببطل قصة حديث في رواق المشرحة
بداية أعرفكم بنفسي أنا أنس زايد أعمل أخصائي تشريح شرعي منذ ثمان سنوات، لا أخفيكم سرا مررت بكوابيس عصيبة خلال الشهر الذي تسلمت فيه مهام عملي وكدت أقدم استقالتي بسبب عملائي الكرام، وقتها كانت رؤية فكرة أن أقوم بالاقتراب من إنسان متوفي غاية الغرابة، فمن أنا لأقتحم الأجساد حتى وإن كنت أحمل مصوغات تبيح لي فتح الأمعاء وشق الصدور، لاحظت رئيستي الدكتورة "أمنية محمود" كل هذا، وتعاملت معي كأم حنون تفهمت بصدر رحب رغبتي الملحة في التقيؤ وتغطية وجهي براحة يدي كلما توغلت في أحشاء أحد العملاء.
كانت بمثابة أم تأخذ بيد طفلها لكي يذاكر مادة معقدة، تمهلت وتحملت وشرحت لي ما في هذه المهنة من خدمة لشخص مغدور توارى قاتله بذكاء وفلت من القصاص، أخبرتني أنني إذا نجحت في فك شفرات العميل، فمن السهل مساعدة السلطات المعنية في القبض على الجاني لكي يجني ثمار فعله للآثم وفي نفس الوقت فإن كشف المجرم و تقديم المجرم بسرعة للعدالة يردع النفوس المريضة التي تلجأ لإزهاق الأرواح بلا تأنيب ضمير أو خوف من الله.
اقتنعت تماما بوجهة نظرها وبدأت أنظر بإجلال لمهنة الطبيب الشرعي ولم أعد أخاف من العملاء الأجلاء.
يمكنكم أيضا متابعة قصة: أوراق الخريف
لا مكان للخوف مع قصة حديث في رواق المشرحة
هيا لأصحبكم في جولة داخل الرواق البارد، تذكروا أعزائي أن لا مكان للخوف هنا، العمال والطاقم الطبي في أي مشرحة ينسجمون تماما مع العملاء، حتى وإن قدموا برصاصة في الصدر أو طعنات غادرة في الظهر أو حتى أشلاء مبعثرة، عملاؤنا الكرام يتميزون بالهدوء؛ فلقد خضعوا لسلطان الموت كبقية البشر، غير أن الفرق الوحيد أن الموت زارهم رغما عنهم، لهذا فإن المرور بالمشرحة هو الملاذ الأخير لهم طلبا لمعرفة المتسبب في إزهاق أرواحهم وملابسات الحادث وتحديد زمن ومكان الوفاة.
التحدث مع الجثث وقصة حديث في رواق المشرحة الجزء الأول
لا أخفيكم سرا اعتقدت في بادئ الأمر أن العمل وسط الجثث يحتاج فقط لمهارات متعددة في تشريح الأنسجة وتحليل محتوى المعدة وتحديد نوع السموم التي اخترقت الأنسجة ومدى عمق الرصاصة وهل اخترقت الجسد من مسافة قريبة أم جاءت بيد قناص من مكان مرتفع، لكن مع الوقت تبينت أني كنت أفتقد لأهم مهارة ألا وهي التحدث مع الجثث.
اقرأ ايضا قصة الشيطان يسكن في حديقة البيت
لهذا جاءت التقارير التي أرفعها للنيابة العامة كما وصفتها دكتورة أمنية "جافة كأوراق الخريف بلا روح وقاسية"، كأنني أتعامل مع مجموعة من الدمى إلى أن قررت أن أضع غروري على الرف وألحق بجواره خوفي من العملاء وأصبحت أراهم بعين البصيرة من وقتها كففت عن التعامل بجمود مع الجثث وذهبت الكوابيس بلا رجعة، بدأت أعامل عملائي على أساس أنهم أحياء ما دام وجهي هو آخر من يرافقهم قبل النوم للأبد فلابد أن أكون خير جليس وأن أترفق بعملائي الذين ساقتهم الأقدار.
أصوات تحت الغطاء الأبيض
قصة حديث في رواق المشرحة ونظرة عن قرب إلى وجوه العملاء
بدأت بحذر في تأمل أي عميل مستجد والنظر إليه بشفقة واعتمدت مقدمة ترحيبية قبل البدء في تفحص العميل فحواها: "عزيزي أعلم أنك تشعر الآن بوحشة وضيق، أنا هنا لمساعدتك وأقف في صفك وكل ما يهمني هو أن يأخد الجاني عقابة وترقد روحك في سلام."
فور نطق تلك الكلمات تذهب الرهبة والقلق من قسمات العميل ويبدأ بالبوح بكل ما لحق به، بعض وجوه العملاء رغم قسوة ما أصابهم إلا أنها تشع رضا وسكينة وارتياح لمغادرة هذا العالم الذي لم يكن سوى سلسلة من المعاناة والألم، البعض الآخر يطغى عليه الحيرة والقلق لكونه لم يتبين بعد سبب ما لحق به، والبعض ترى على وجوههم الخوف مما هو قادم، لكني أحرص على طمئنة كل الوجوه.
يتبع..
دمتم بكل ود



